فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أنا بينا أن الغرض من قوله تعالى للرسل: {مَاذَا أَجَبْتُمُ} [المائدة: 109] توبيخ من تمرد من أممهم، وأشد الأمم افتقارًا إلى التوبيخ والملامة النصارى الذين يزعمون أنهم أتباع عيسى عليه السلام؛ لأن طعن سائر الأمم كان مقصورًا على الأنبياء وطعن هؤلاء الملاعين تعدى إلى جلال الله وكبريائه، حيث وصفوه بما لا يليق بعاقل أن يصف الإله به، وهو اتخاذ الزوجة والولد، فلا جرَم ذكر الله تعالى أنه يعدد أنواع نعمه على عيسى بحضرة الرسل واحدة فواحدة، والمقصود منه توبيخ النصارى وتقريعهم على سوء مقالتهم فإن كل واحدة من تلك النعم المعدودة على عيسى تدل على أنه عبد وليس بإله.
والفائدة في هذه الحكاية تنبيه النصارى الذين كانوا في وقت نزول هذه الآية على قبح مقالتهم وركاكة مذهبهم واعتقادهم. اهـ.
قال الفخر:
خرج قوله: {إِذ قَالَ الله} على لفظ الماضي دون المستقبل وفيه وجوه:
الأول: الدلالة على قرب القيامة حتى كأنها قد قامت ووقعت وكل آت قريب ويقال: الجيش قد أتى، إذا قرب إتيانهم.
قال الله تعالى: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] الثاني: أنه ورد على حكاية الحال، ونظيرُه قولُ الرجل لصاحبه كأنك بنا وقد دخلنا بلدة كذا، فصنعنا فيها كذا، إذ صاح صائح؛ فتركتني وأجبته.
ونظيره من القرآن قوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ} [سبأ: 51] {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتوفى الذين كفروا الملائكة} [الأنفال: 50] {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ} [سبأ: 31] والوجه في كل هذه الآيات ما ذكرناه، من أنه خرج على سبيل الحكاية عن الحال. اهـ.
قال الفخر:
{عِيسَى ابن مَرْيَمَ} يجوز أن يكون {عِيسَى} في محل الرفع لأنه منادى مفرد وصف بمضاف ويجوز أن يكون في محل النصب لأنه في نية الإضافة ثم جعل الابن توكيدًا وكل ما كان مثل هذا جاز فيه وجهان نحو يا زيد بن عمرو، ويا زيد بن عمرو، وأنشد النحويون:
يا حكم بن المنذر بن الجارود.. برفع الأول ونصبه على ما بيناه. اهـ.

.قال الثعلبي:

قوله: {إِذْ قَالَ الله يا عيسى ابن مَرْيَمَ} يعني حين قال اللّه يا عيسى بن مريم، محل عيسى نصب لأنه نداء المنصوب إذا جعلته نداء واحدًا، فإن شئت جعلته ندائين فيكون عيسى في محل الرفع لأنه نداء مفرد وابن في موضع النصب لأنه نداء مضاف، وتقدير الكلام يا عيسى يابن مريم. نظيره قوله:
يا حكم بن المنذر بن الجارود ** أنت الجواد ابن الجواد ابن الجود

ذلك في حكم الرفع والنصب، وليس بن المنذر عن النصب. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِذْ قَالَ الله ياعيسى عِيسَى ابن مَرْيَمَ} بدل من {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} [المائدة: 109] وقد نصب بإضمار اذكر، وقيل: في محل رفع على معنى ذاك إذ وليس بشيء، وصيغة الماضي لما مر آنفًا من الدلالة على تحقق الوقوع، والمراد بيان ما جرى بينه تعالى وبين فرد من الرسل المجموعين من المفاوضة على التفصيل إثر بيان ما جرى بينه عز وجل وبين الكل على وجه الإجمال ليكون ذلك كالأنموذج على تفاصيل أحوال الباقين، وتخصيص عيسى عليه السلام بالذكر لما أن شأنه عليه الصلاة والسلام متعلق بكلا فريقي أهل الكتاب المفرطين والمفرطين الذين نعت هذه السورة الكريمة جناياتهم فتفصيله أعظم عليهم وأجلب لحسراتهم، وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار لما مر من المبالغة في التهويل.
وعيسى مبني عند الفراء ومتابعيه إما على ضمة مقدرة أو على فتحة كذلك إجراء له مجرى يا زيد بن عمرو في جواز ضم المنادى وفتحه عند الجمهور، وهذا إذا أعرب ابن صفة لعيسى، أما إذا أعرب بدلًا أو بيانًا فلا يجوز تقدير الفتحة إجمالًا كما بين في كتب النحو. اهـ.

.قال ابن عاشور:

قوله: {إذ قال الله يا عيسى ابن مريم} ظرف، هو بدل من {يومَ يجمع الله الرسل} بدل اشتمال، فإنّ يوم الجمع مشتمل على زمن هذا الخطاب لعيسى، ولذلك لم تعطف هذه الجملة على التي قبلها.
والمقصود من ذكر ما يقال لعيسى يومئذٍ هو تقريع اليهود.
والنصارى الذين ضلّوا في شأن عيسى بين طرفي إفراط بغض وإفراط حبّ.
فقوله: {اذكر نعمتي عليك} إلى قوله: {لا أعذّبه أحدًا من العالمين} [المائدة: 115] استئناس لعيسى لئلاّ يفزعه السؤال الوارد بعده بقوله: {أأنت قلت للناس} إلخ [المائدة: 116] وهذا تقريع لليهود، وما بعدها تقريع للنصارى. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {نِعْمَتِى عَلَيْكَ} أراد الجمع كقوله: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [النحل: 18] وإنما جاز ذلك لأن مضاف يصلح للجنس.
واعلم أن الله تعالى فسّر نعمته عليه بأمور: أولها: قوله: {إِذَ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس} وفيه وجهان: الأول: روح القدس هو جبريل عليه السلام، الروح جبريل والقدس هو الله تعالى، كأنه أضافه إلى نفسه تعظيمًا له.
الثاني: أن الأرواح مختلفة بالماهية فمنها طاهرة نورانية ومنها خبيثة ظلمانية، ومنها مشرقة، ومنها كدرة، ومنها خيرة، ومنها نذلة ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «الأرواح جنود مجندة» فالله تعالى خصّ عيسى بالروح الطاهرة النورانية المُشْرِقة العلوية الخَيّرة.
ولقائل أن يقول: لما دلّت هذه الآية على أن تأييد عيسى إنما حصل من جبريل أو بسبب روحه المختص به، قدح هذا في دلالة المعجزات على صدق الرسل، لأنا قبل العلم بعصمة جبريل نجوز أنه أعان عيسى عليه السلام على ذلك، على سبيل إغواء الخلق وإضلالهم فما لم تعرف عصمة جبريل لا يندفع هذا وما لم تعرف نبوّة عيسى عليه السلام لا تعرف عصمة جبريل، فيلزم الدور وجوابه: ما ثبت من أصلنا أن الخالق ليس إلا الله وبه يندفع هذا السؤال.
وثانيها: قوله تعالى: {تُكَلّمُ الناس في المهد وَكَهْلًا} أما كلام عيسى في المهد فهو قوله: {إِنّى عبد الله ءاتَانِىَ الكتاب} [مريم: 30] وقوله: {تُكَلّمُ الناس في المهد وَكَهْلًا} في موضع الحال.
والمعنى: يكلمهم طفلًا وكهلًا من غير أن يتفاوت كلامه في هذين الوقتين وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده.
وثالثها: قوله تعالى: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل}.
وفي {الكتاب} قولان: أحدهما: المراد به الكتابة وهي الخط.
والثاني: المراد منه جنس الكتب.
فإن الإنسان يتعلم أولًا كتبًا سهلة مختصرة، ثم يترقى منها إلى الكتب الشريفة.
وأما {الحكمة} فهي عبارة عن العلوم النظرية، والعلوم العملية.
ثم ذكر بعده {التوراة والإنجيل} وفيه وجهان: الأول: أنهما خصا بالذكر بعد ذكر الكتب على سبيل التشريف كقوله: {حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238] وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7] والثاني: وهو الأقوى أن الاطلاع على أسرار الكتب الإلهية، لا يحصل إلا لمن صار بانيًا في أصناف العلوم الشرعية والعقلية الظاهرة التي يبحث عنها العلماء.
فقوله: {والتوراة والإنجيل} إشارة إلى الأسرار التي لا يطلع عليها أحد إلا أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. اهـ.

.قال الثعلبي:

{اذكر نِعْمَتِي} قال الحسن: ذكر النعمة شكرها وأراد بقوله نعمتي نعمي لفظه واحد ومعناه الجمع كقوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] أراد نعم اللّه لأن العدد لا ينفع على الواحد {عَلَيْكَ} يا عيسى {وعلى وَالِدَتِكَ} مريم، ثم ذكر النعم {إِذْ أَيَّدتُّكَ} قويّتك وأعنتك {بِرُوحِ القدس} يعني جبرئيل {تُكَلِّمُ الناس فِي المهد} صبيًا {وَكَهْلًا} نبيًا {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب} قال ابن عباس: أرسله اللّه وهو ابن ثلاثين سنة فمكث في رسالته ثلاثين شهرًا ثم رفعه اللّه إليه.
{وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب} يعني الخط {والحكمة} يعني العلم والقيم {والتوراة والإنجيل}. اهـ.

.قال الألوسي:

و{على} في قوله تعالى: {اذكر نِعْمَتِى عَلَيْكَ وعلى والدتك} متعلقة بنعمتي جعل مصدرًا أي اذكر إنعامي أو بمحذوف وقع حالًا من نعمة إن جعل اسمًا أي أذكر نعمتى كائنة عليك الخ، وعلى التقديرين يراد بالنعمة ما هو في ضمن المتعدد، وليس المراد كما قال شيخ الإسلام بأمره عليه السلام يومئذ بذكر النعمة المنتظمة في سلك التعديد تكليفه عليه السلام بشكرها والقيام بمواجبها ولات حين تكليف مع خروجه عليه السلام عن عهدة الشكر في أوانه أي خروج بل إظهار أمره عليه السلام بتعداد تلك النعم حسبما بينه الله تعالى اعتدادًا بها وتلذذًا بذكرها على رؤوس الأشهاد ويكون حكاية ذلك على ما أنبأ عنه النظم الكريم توبيخًا للكفرة من الفريقين المختلفين في شأنه عليه السلام إفراطًا وتفريطًا وإبطالًا لقولهما جميعًا.
{إِذْ أَيَّدتُّكَ} ظرف لنعمتي أي أذكر إنعامي عليكما وقت تأييدي لكما أو حال منها أي أذكرها كائنة وقت ذلك، وقيل: بدل اشتمال منها وهو في المعنى تفسير لها.
وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولًا به على السعة، وقرئ {آيدتك} بالمد ووزنه عند الزمخشري أفعلتك وعند ابن عطية فاعلتك، قال أبو حيان: ويحتاج إلى نقل مضارعه من كلام العرب فإن كان يؤايد فهو فاعل وإن كان يؤيد فهو أفعل ومعناه ومعنى أيد واحد، وقيل: معناه بالمد القوة وبالتشديد النصر وهما كما قيل متقاربان لأن النصر قوة.
{بِرُوحِ القدس} أي جبريل عليه السلام أو الكلام الذي يحيى به الدين ويكون سببًا للطهر عن أوضار الآثام أو تحيى بها الموتى أو النفوس حياة أبدية أو نفس روحه عليه السلام حيث أظهرها سبحانه وتعالى روحًا مقدسة طاهرة مشرقة نورانية علوية، وكون هذا التأييد نعمة عليه عليه الصلاة والسلام مما لا خفاء فيه، وأما كونه نعمة على والدته فلما ترتب عليه من براءتها مما نسب إليها وحاشاها وغير ذلك.
{تُكَلّمُ الناس في المهد} أي طفلًا صغيرًا، وما في النظم الكريم أبلغ من التصريح بالطفولية وأولى لأن الصغير يسمى طفلًا إلى أن يبلغ الحلم فلذا عدل عنه، والظرف في موضع الحال من ضمير {تُكَلّمَ}.
وجوز أن يكون ظرفًا للفعل.
والجملة إما استئناف مبين لتأييده عليه الصلاة والسلام أو في موضع الحال من الضمير المنصوب في {أَيَّدتُّكَ} كما قال أبو البقاء.
والمهد معروف.
وعن الحسن أن المراد به حجر أمه عليهما السلام، وأنكر النصارى كلامه عليه الصلاة والسلام في المهد وقالوا إنما تكلم عليه السلام أوان ما يتكلم الصبيان وقد تقدم مع جوابه.
وقوله تعالى: {وَكَهْلًا} للإيذان على ما قيل بعدم تفاوت كلامه عليه الصلاة والسلام طفولية وكهولة لا لأن كلا منهما آية فإن التكلم في الكهولة معهود من كل أحد.
وقال الإمام: إن الثاني أيضًا معجزة مستقلة لأن المراد تكلم الناس في الطفولية وفي الكهولة حين تنزل من السماء لأنه عليه الصلاة والسلام حين رفع لم يكن كهلًا.
وهذا مبني على تفسير الكهل بمن وخطه الشيب ورأيت له بجالة أو من جاوز أربعًا وثلاثين سنة إلى إحدى وخمسين وعيسى عليه الصلاة والسلام رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين قيل وثلاثة أشهر وثلاثة أيام.
وقيل: رفع وهو ابن أربع وثلاثين وما صح أنه عليه الصلاة والسلام وخطه الشيب، وأما لو فسر بمن جاوز الثلاثين فلا يتأتى هذا القول كما لا يخفى.
وقال بعض: الأولى أن يجعل {وَكَهْلًا} تشبيهًا بليغًا أي تكلمهم كائنًا في المهد وكائنًا كالكهل.
وأنت تعلم أن أخذ التشبيه من العطف لا وجه له وتقدير الكاف تكلف.
{وَإِذْ عَلَّمْتُكَ} عطف على {إِذْ أَيَّدتُّكَ} أي واذكر نعمتي عليكما وقت تعليمي لك من غير معلم {الكتاب والحكمة} أي جنسهما، وقيل: الكتاب الخط والحكمة الكلام المحكم الصواب {والتوراة والإنجيل} خصا بالذكر إظهارًا لشرفهما على الأول. اهـ.